26 مايو 2011

بين فكَّيْ الجلاد..

16 تعليق


كَمٌّ هائل من المرارة والفجيعة تسكنانني، وأنا أتطلع كل صباح وكل مساء إلى نشرات الأخبار العربية، وثلة من الجرائد لا تحمل بين طياتها غير المواجع.

حسمت أمري مرات عدة للإقلاع عن هذه العادة التي ولدت ببيتي مع ولادة الثورات العربية، وقررت مرارا أن أقاطع التلفزيون أو أضرب عنه، وأعود إلى طبيعتي، كتب محفزة، روايات عظيمة، وكفى، أي لا إدمان على الشاشة.
حتى أن بوادر اكتئاب فجائي تلوح فوق سمائي، حينما نقضي سهرتنا أنا وصديقتي لطيفة في استعراض معضلاتنا العربية، وفحولتها المعطوبة.
لخيبتي، ما ألبث أعود إلى الجهاز، أتلصص عن بعد على أقدار الآلاف وهم يروون عطش الثرى صبحا وعشية، وأتحسس حربا، مخافة أن تقع على غفلة مني.

 كم شعبا يجب أن يباد وتسيل دماؤه غزيرة تعبر القنوات وتملؤ الصفحات بالقهر الفاتك، قبل أن يراوده ذبيب الديمقراطية المطعونة التي تفنى روحه ممنيا نفسه الوصول إليها.
ما أثقلها من هموم، تنخر الجسد وتسممه، وكأننا بحاجة لمن يجهز علينا حد الوجع، يكفي وجع الأمة ومهالك العروبة التي لا تنتهي..
أيعقل أن يفعل بنا حكامنا كل هذا؟..أتساءل بغباء.. وكيف لا وهم الذين لا يرضون إلا بالنسب الحاسمة، لا يصلون سدة الحكم بأقل من ٩٩،٩٩٪، وهي نفس النسبة التي يحتاجونها قبل المغادرة لإبادة الشعب عن بكرة أبيه.

من يوضح لي ما يحدث، إعاقة فكرية تضرب عقلي، وأنا أحاول جاهدة التمييز بين الظالم والمظلوم، الحقيقة والباطل، بين الصدق والبهتان..
وجدت جوابا بسيطا لتساؤلاتي في جملة قرأتها لأنس زاهد ( في كل الدنيا يلقون بالقتلة في السجون. عندنا فقط يمكن للقاتل أن يقضي بقية مدة عقوبته تحت قمّة البرلمان. إنه إنجاز تعجز عنه الديمقراطية البريطانية نفسها).
وهاهم هناك (الحكام) يبثون المقابلة، ثم يرعون المباريات الدموية بين أجهزتهم الفاسدة وجسد الشعب الأعزل، ساديون يتلذذون بامتصاص الدماء دون أدنى رحمة..وكأننا أمام مشهد من فيلم دراكولا. 

اعتقدوا لأعوام طوال، أننا نعالهم التي يمشون بها فوق جثتنا الحية منها والميتة، وما أن ظهرت بوادر الثورة، شنوا علينا حروبهم الضارية وأبانوا عن أنيابهم المفترسة، خشية إبعادهم عن مجلسهم الوثير.
يال هذا الزمن القبيح المفجع، الذي لم أجد له وصفا أفضل مما قاله صلاح عبد الصبور ( هذا زمن الحق الضائع، لا يعرف فيه مقتول من قتله، ومتى قتله، ورؤوس الناس على جثث الحيوانات، ورؤوس الحيوانات على جثث الناس، فتحسس رأسك).

أنبكي أوطاننا أم تَبكينا، تعدى الوجع الجرعة المسموح بها، وتهاوت علينا الضربات من القريب قبل العدو، قتل من قتل، وسجن من سجن، واختفى آخرون..ولازلنا نحلم بلحظة تاريخية حاسمة تغير مجرى حياتنا رغم ترسانتنا العربية الوضيعة المخجلة.. 

قد تتساءلون لما كل هذا التشاؤم، وقد كان حريا بي أن أنادي بالأمل كما تعودنا أن نفعل، أو تصابون بانهيار عصبي كما وصفته صديقتي بعد انتهائها من الاطلاع على ما يعتصرني، لكني لم أجد مهربا من كل هذا الألم، ونحن على أعتاب الحرية نناديها بسخاء، لتخلصنا من بين أنياب جلادينا، لا نملك سوى اللحظة لا سواها، ننتظر سقوط الطاغية عن عرشه المزعوم، لنفرح فرحة الصحابة بسقوط هبل، ونتلذذ بفجيعة قريش لفقدانه، دون أن ندفع باهظا ثمن سقوطه..نترقب بحذر..جلادا جديدا..أو فجرا جديدا..

22 مايو 2011

ورقة من دفتر لاجئ

15 تعليق


يجول بناظريه بين صفحات دفتر بالٍ أرهقته الأيدي، وكأنه يحاول فك لغز مفقود، غيبته الذاكرة، ثم يرفع بصره في لحظة خاطفة، فزِعا، يتملص من القدر المرسوم شريطا أحمرا على الجهاز المتآكل قبالته..

إنها نشرة الأخبار التي لا مفر منها، يضبط ساعته عليها كما المساءات التي ولت، وتلك التي ستأتي، فقد يحدث أن تخونه عقاربها..
هاهوذا يحملق في الشاشة، يتقصى أخبار الوطن، بعدما رحل عنه مجبرا لسبب في نفسه، أعوام عشرة أو تزيد، لم تطأ قدمه تربة  بلدته ولم يحتضن جسده رائحتها..

فقط بقايا دفتر، كان يدون فيه يومياته، كان يرسم بفرشاة الحزن ألوانا لم يعد يتذكرها، زادتها السنين قتامة..وبضع ذكريات عالقة تقذفها فوهة الذاكرة بين الفينة والأخرى..هذا كل ما تبقى من ماض يجهل نصفه..

انتهى الموجز، والضفة الغربية المحتلة على حالها، لا الحال تغير ولا الاحتلال رحل..والورم يكبر في صدره كلما حل المساء، وأحاطت به جيوش الحزن لتحرق عوده كما الهشيم..تنغص ليله الدامس..وتزيده حلكة..

يلتقط كتابه البالي من جديد، ويقلب صفحات أيامه، واحدة تلو الأخرى، تقفز الطفولة مباغتة تحيي ذكرى ميتة، يحاول رسم صورة أمه التي لم يعرفها، لكنه يتذكر جيدا وجه أبيه، حينما طبع على جبينه القبلة الأخيرة، قبل أن تنخره رصاصة غادرة في إحدى أيام الانتفاضة الأولى  وترديه شهيدا..
رفض طائر الكرى التحليق فوق أهدابه، ليترك له مساحة يسطر فيها عناوينا لعائلة جادت بها أحلامه، تمناها في سره، قبل أن تصادَر منه حرية التمني هي الأخرى..

أعياه المصنع الحقير الذي يقتات منه، في إحدى قرى سوريا النائية، ووجوه لا يعرفها، يراها ولا يتذكرها..ينهي عمله على مضض، يهرول إلى غرفته القابعة في سطح إحدى الدور الهشة، ينزوي وحيدا، يكرس حجم العزلة في ساحة صدره، حتى صارت جزءا منه، وكأن لسان حاله ينقل للمدى أمنيات عقيمة..استنزفت زهرة الصبر كلها..

يشرد مجددا..تطيحه إغفاءة مقصودة، تملصا من شيء ما..ثم يستفيق سعيد، عابسا، على وجه الوطن، وذكريات داكنة..تعيش في دفتر، بين خردة أحلام  ورزمة كلمات، وشريط أحمر مسطر كما الموت المحتم.

06 مايو 2011

جولة في متحف كريفان

16 تعليق


مرحباً بالأحبة..


سأصحبكم هذه المرة في جولة وهمية ترفيهية بكل أبعادها، المكان متحف كريفان (grévin) بباريس، متحف الشمع هذا الذي يحتضن منذ الخامس من يونيو 1882 أبرز الوجوه والشخصيات العالمية التي تركت بصمتها بارزة على صفحات العالم..
سنقلب أوراق الماضي والحاضر، سنقرأ التاريخ بطريقة مغايرة، وكأننا فعلا عشنا تلك الحقب..
كريفان..شعلة من إبداع يدوم منذ أزيد من 120 عاما، نُفخت فيه روح نحاتين بارعين أضافوا لفن النحت على الشمع لمستهم الخاصة التي تدخلت في أدق تفاصيل الشخصيات من الزمنين الماضي والحاضر..



نستهل الجولة بقاعة المرايا (le palais des mirage)، ياله من عالم مثير، تزج بنفسك في معبد هندوسي، تتوه في غابة مخيفة لا قرار لها، مواصلا الرحلة بين أروقة قصر وكأنها أمسية من ألف ليلة وليلة، كل هذا من تمازج الأضواء والمرايا المدهشة التي تنقلك بعيدا عن الأنظار، مع كل لمحة تكتشف منظورا جديدا لا نهاية له..في هذا المكان..الدهشة مضمونة..



بعد الاستعراض الأخاذ، نطأ صالة أخرى، حيث المشاهير والشخصيات المرموقة، نجد في استقبالنا بعضا منهم كما الفنان الأمريكي الوسيم جورج كلوني، والمغني والعازف الإنجليزي إلتون جون، كما نجد الممثلة البارعة جوليا روبرتس وكذا الجميلة مونيكا بلوتشي..


ندخل صالة المسرح، التي أنشأت في العام 1900 من طرف المهندس ريف، فنجد بها شارل أزنفور مستريحا على أحد مقاعدها، وغير بعيدة عنه الكاتبة البلجيكية أميلي نوتومب الشهيرة صاحبة كتاب (stupeurs et tremblements)..يحرسهما جاكي شان بابتسامته الخفيفة ويقظته ..^_^..


نتابع المسير، إلى أن نصل لقصر الإليزيه، نجد رئيس الجمهورية الفرنسية نيكولا ساركوزي بضحكته اللاذعة يرافقه أوباما وبوتن وميركل ومحمد السادس والرئيس السنغالي..
لابأس بصورة أمام هؤلاء الزعماء، هنا يمكنك أن تفعل بهم ما شئت..


قبل أن ندخل ورشة النحات الفرنسي أوغوست رودان، علينا أولا تقديم التحية لعمالقة فن الرسم الإسبانيين الشهيرين سالفادور دالي وبابلو بيكاسو..




باريس أيضاً تلك المقاهي الأدبية التي ارتادها مشاهير الأمس واليوم، سيرج جانسبورج وكأسه الممتلئة، يرمقه إرنيست إمنوي صاحب كتاب (le vieil homme et la mer)  وهو في لحظة شرود، على مقربة منهما جلست في حوار حميمي مغنية الأوبرا الأمريكية ماريا كالاس والمصمم الفرنسي العالمي جون بول جوتيي..



والآن تعالوا إلى عالم الموضة، نحضر استعراض الأزياء للمفترسة نومي كمبيل يراقبها بنظرته الجادة المصمم الشهير كريستيان ديور..قبل أن ننتقل لواجهة أخرى تضم قسما لتلامذة أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1945..وغير بعيد نجد العازف المرموق مستلاف روستروبفيتش وهو يعزف مقطوعته أمام جدار برلين يوم انهياره في نونبر 1989..



أما الان فسنغادر القرن العشرين في رحلة عكسية إلى الماضي، إلى القرون الوسطى حيث  أبرز الرسامين  الذين وقعوا مجدهم مبكرا وظلت أعمالهم محل دهشة وإعجاب إلى يومنا هذا، وكذا الكتاب والفلاسفة والأطباء والأدباء، كما نجد ملوك فرنسا الذين تعاقبوا على حكمها مع تجسيد متقن لأحداث بارزة يحفظها التاريخ..ومن بين تلك الوجوه المعروفة نصادف موليير وجان راسين، ليوناردو دافينتشي، نوسترداموس وغيرهم كثر..





والان، سندخل أقدم صالة بالمتحف التي أنشأت يوم الافتتاح عام 1882 ذات التصميم المنفرد والجذاب، وتضم وجوها لشخصيات تركت أثرها إلى اليوم كما الزعيم الروحي للهند المهاتما غاندي وموزارت يافعا، وبالقرب نجد ألبير إنشتاين، نابليون بونابرت وعائلته..ضم المكان أيضاً وجوها أثرت في زمنها كماريلين مونرو ومايكل جاكسون وألفريد هتشكوك وغيرهم..




انتهت الجولة الان، وبقي ذهني يحتفظ بالوجوه المئتي وخمسين التي اجتمعت في مكان يستحق الزيارة فعلا..آمل أن تكونوا قد استمتعتم كما فعلت أنا وصديقتي اللطيفة، وتجدون هنا مزيدا من الصور لوجوه لم نرها، لكن ذاكرتنا تعرفها.

01 مايو 2011

على جسر ميرابو

14 تعليق


رحل الليل إلا أقله، والشوارع خاوية إلا من بعض النساء العابرات، وبضع سيارات تفتك وحشة الليل..مشيت بخطوات متثائبة، وصلت إلى جسر ميرابو، وقفت على الجسر، دنوت أكثر  لتصلني حكايا نهر السين وما تهامسه المحبون على جنباته، كم يا ترى شهد من وعود وكم سرا دفن بين ضفتيه؟..كم بائسا ابتلع هذا النهر وكم نهاية سطرها؟..

ما الذي أتى بي إلى هذا المكان بالذات؟..وفي هذا الوقت المتأخر؟..لا يصحبني سوى أثر الفراشة لدرويش..والنهايات لعبد الرحمان منيف الذي ينتظر دوره بين أروقة حقيبة اليد الرمادية..وسيارة مركونة بطريقة عشوائية على ناصية شارع باريسي أقفلت جميع محلاته، حتى الهاتف الخلوي تخلصت منه عمدا لئلا يفسد صوت المدى..

وترفرف قصيدة غيوم أبولينير فوق الجسر..
                                       تحت جسر ميرابو يجري "السين"
                                       وحبّنا
                                       هل من اللّزوم تذكيري به
                                       الفرحة كانت تأتي دوما بعد الأسى
                                       ليأت اللّيل ولتدقّ السّاعة
                                       فالأيّام تذهبُ وأنا في مكاني

نظرت إلى صورتي مليا فلم تبرز لي، ألقيت آخر حبة بندق في جيبي لأرى أثرها على النهر فوجدته يتجاوب معها  وكأنه يناجيها..

وأنا..أنا..

متكئة على حافته، أمعن النظر في مالانهاية، في الأفق اللامحدود، أبحث عن الذات الأخرى، عن واحدة ليست أنا، أو ربما أكون أبحث عن الجزء الاخر مني، عن الجانب الخفي الذي أحاول رؤيته..ويتجنبني..
أغير منحى بصري في اتجاه الشمال، وساعات الحلم الطويلة، أعود إلى صفوف المدرسة ومقاعدها الخشبية، إلى جدائلي، النشيد الوطني الصباحي، والمحفظة الثقيلة، حيث مرتع الكتب المغلفة بألوان مختلفة، الأخضر والأصفر والأحمر والبني الداكن..دفاتر من اثني عشرة وكذا أربعة وعشرين ورقة، الأقلام الجافة والأقلام اللبدية، أقلام الحبر وأقلام الرصاص، واللوحة ورفيقتها الطبشورة...

وأبحر مرة أخرى، هذه المرة في كل الاتجاهات، ترتطم مخيلتي بأشخاص عرفتهم، وآخرين ظننت أني عرفتهم، أتفرس في مذكرة حياتي، أعد القلائل الذين تركوا بصمتهم عليها، وأولئك الذين رحلوا وتركوا وخزا تكفلت به الأيام..أتذكر حبا عظيما رحل، إلا أنه يحيا معي..جدتي الزهراء، منبت الرضى، وعيونها الباسمة..
  
تنهيدة سمعتها الريح الخفيفة التي تداعب الخصلات السوداء حينا، وتقسو عليها حينا..قبل أن يفسد صفيرها المفاجئ خلوتي، ويقطع مرة أخرى صمت الليل..وكأنه تأوه لاشتباكه بخيوط ذاكرتي..
   
ذاكرتي..قفزت من أعلى الجسر، كما فعل بول سيلان ذات نيسان منذ واحد وأربعين عاما، وكما ألقى الجزائريون أحلامهم، لكنني بقيت أنا..أجول بناظريَّ إلى حيث اللامكان، حيث تهتك عقارب الوقت، ويعود الزمن ورقة بيضاء، يرتجف، خائفا، ينتظر مصيره كعروس ليلة عرس..

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More