21 مارس 2012

البيت الأندلسي

12 تعليق


"حافظوا على هذا البيت، فهو من لحمي ودمي. ابقوا فيه ولا تغادروه حتى ولو أصبحتم خدما فيه أو عبيدا..إن البيوت الخالية تموت يتيمة".

كانت هذه وصية سيد أحمد بن خليل (غاليليو الروخو)، أحد المورسكيين ( مسلمي الأندلس) الذي تم تهجيره غصبا من حاضرة غرناطة بعد أن أذاقته محاكم التفتيش المقدس الإسبانية الويلات، رأى في سجونها أصنافا وألوانا من العذاب الذي يفوق احتماله طاقة البشر، لكنه نجى من موت محقق بأعجوبة، حيث وضع الله في طريقه رجلا من رجال الكنيسة ساعده على الرحيل..

مغادرته الأندلس كانت بداية حياة حملت له من الشقاء والفرح والأمل والألم والأسئلة ما لم يجد لها جوابا، ركب سفينة التهجير الضخمة هو والاف غيره مجبرين نحو الجزائر، وترك وراءه بلاده وتفاصيل حياته وحبا يكاد يكون مستحيلا في زمننا الأغبر، ترك وراءه سلطانة بالاثيوس، مارانية ( المارانيون = يهود الأندلس) جمعهما حب عنيف سيحارب حتى النهاية..

بطل الرواية، مراد باسطا، آخر ما تبقى من السلالة المنقرضة، يحاول جاهدا الحفاظ على مخطوطة جده الأول غاليليو، التي دون عليها فضائع ما جاءت به محاكم التفتيش، يساعده في ذلك حفيده سليم وماسيكا، الفتاة الموريسكية التي تعثر بها ذات صدفة، كما يسعى لإثبات حق ملكيته للبيت الأندلسي الذي بناه غاليلو الروخو قطعة قطعة كعربون محبة للالة سلطانة في منفاه في الجزائر، والذي كان متأكدا من أن سفينة القدر سترسو بها عند بابه وإن طال الزمن..

هذا البيت الذي بناه غاليليو في القرن السادس عشر بكل جوارحه وصممه على الطراز الأندلسي المحض بما بقي عالقا في ذهنه من صورة أحد بيوت البيازين بغرناطة، والذي تعاهد أمامه مع لالة سلطانة بأن ينشئا مثله ويورثاه لأبنائهما، نجح في جلب أندلسه إلى منفاه، كل ما فيه يعبق برائحة أرضه الأولى، أشجاره ومسكه ونافورته، حتى الموشحات الأندلسية والفرقة الموسيقية التي كونتها لالة سلطانة ورفيقاتها حين التحقت عبر سفينة تهجير هي الأخرى بغاليليو وعادت لهما بهجة الحياة بعد طول فراق..

لقد برع واسيني الأعرج بدقة متناهية في وصف قرون خمسة مضت، تعاقب فيها الكثيرون على البيت الأندلسي بعد رحيل غاليليو، فعاش فيه كما يصف الكاتب، العشاق والقتلة، النبلاء والسفلة، الملائكة والشياطين، الشهداء والخونة..
سيستولي القراصنة الأتراك على البيت الأندلسي بعد أن يغتصبوا صاحبته، ثم يتحول إلى أول دار للبلدية في الجزائر خلال فترة الاحتلال الفرنسي، بعدها سيتكالب عليه ورثاء الدم كما سماهم الكاتب، فيتحول إلى كاباريه ثم إلى ماخور فمركز لتهريب المخدرات والأسلحة..
إلى أن وصل إلى عهد ساكن البيت ( مراد باسطا) الذي ظل كمن سبقوه من سلالة العائلة يسكن بيت الخدم المنتمي للبيت الأندلسي، والذي قاوم بكل قواه السلطات التي تريد تهديمه لاستغلال مساحته الأرضية وذلك لبناء برج عظيم، والذي سيحمل اسم برج الأندلس..

حملت هذه الرواية دلالات أعمق من قصة بيت يتم الاقتتال عليه، إنها كما يقول الكاتب " استعارة مُرّة لما يحدث في كل الوطن العربي من معضلات كبرى تتعلق بصعوبة استيعاب الحداثة في ظل أفق مفتوح على المزيد من الخراب والانكسارات".

البيت الأندلسي هو كذلك الوجه الثاني للأندلس، للخيبات والانكسارات، للفرقة والضياع، للتعذيب والتنكيل، هو التناحر باسم الدين، هو ضريبة حضارة القرون الثمانية..
البيت الأندلسي هو الوطن العربي ممثلا في الجزائر، هو جشع الطبقات الصاعدة التي لا تتوانى عن إزهاق الأرواح وتخريب البلد لحساب مصالحها الشخصية، هو البلادة العربية والوطنية الغائبة، هو التجارة باسم الدين وتطبيق الشريعة باسم المصالح..

في هذا الكتاب يبيع الرجال أوطانهم من أجل حفنة مال، ويدفنون التاريخ حين يعارض هواهم، رجال يجهلون ماضيهم ويدوسون حضارة كاملة بأقدامهم..رجال تنخرهم سوسة المال والسلطة وما سواهما خارج عن مِلتهم..

خرجت من هذه الرواية ممتلئة بالماضي، بتاريخ نهشوه وحرفوه وزوروه وشوهوه لحاجة في نفس يعقوب، لكنه أحيا فيّ ذاكرة لم تمت، برغم الحرائق التي بقيت في حلقي وبرغم الشجون..

14 مارس 2012

صراع على هامش الحياة ..

19 تعليق


عقلي يطن بالهواجس، في مساء سواده يشي بقلق فجائي، تنشط خلايا الذاكرة، يبتسم لها القلب بوهن، طمعا في إزاحة ثقل الأيام الجاثمة عليه..

يطبق السكون من حولي، فتبدده ذاكرة المدن، تأتيني رائحتها من بين طيات السحاب، فأرحل بخيالي إلى موضع بعيد جداً، إلى حيث يستبد بي الحنين، ولا زاوية تسعني في ظل الكون الفسيح..

نظرتي تعكس شعورا ما، كامنا في قرارة نفسي، لم أتبينه بعد..
تتقاذفني أسئلة كثيرة، ولاشيء سوى أفكار بالغة الشحوب، وهمهمات يلقي بها داخلي، تطوحني خارج الزمان، محمولة على أجنحة الملائكة أو ربما في موكب تقوده الشياطين..

في لحظة هاربة، أشياء كثيرة تصحو فيَّ فجأة، كصورته التي لم تشخ أبدا، كقصيدة مبعثرة تركتها على حيطان مدينة شمالية، كحرقة وداع أخير في مطار مدينة قائظة..

وأنا أجوب الفراغ، اشتهيت الكثير، أشيائي الخفية، أوراقي، مذكراتي، اشتهيت كل شيء، رائحة الخزامى وعطر الشجر، لون الفراشات وحقول السنابل، الدراجة الهوائية وحتى الموج الهائج في عاصمة صاخبة..

عثرات لا دواء لها، إلا الكتابة..لكن..لماذا تحمل دوما بين طياتها انتكاسات لا وجود لها إلا في العقل الباطن؟ ولماذا يميل القلم إلى الخيبة ويغلق نافذة الحلم مع أن الأفق واسع؟ كيف نفقد شهوة العيش وماذا يعني أن نستحضر عنوة ذاكرة انمحت وخرمتها دودة الأيام..إنها محاولات عابثة، كمن يبحث عن نوتة موسيقية في آلة خربة..

أصداء تمر على حواف أذني، تزيدها ثقلا، يفلت الزمن من يدي، خاطري متقد وساعتي متسارعة الخطى، لا تكف عن الدوران، أودها لو تتثاقل، لا لرغبة في العيش أكثر ولكن لاستبطاء الوقت عند ممر الذاكرة وهي تنسلخ عن الواقع..

نهرب دوما من الحاضر..أصرخ بلا صدى..لماذا نفعل؟..ألأن الماضي كان أقل مرارة، أم لأنه مضى وانتهى واحتويناه من أعلى، استثنينا عنصر المفاجآت فصار مجرد سيناريو تشتعل أحرفه في العمق بشوق لإعادة إحياء التفاصيل؟..

سنوات تمضي، وأخرى تأتي، متشابهة، تحمل  أشواقنا، تبدو غريبة، ثم نتعود عليها، كما نتعود على الأمكنة والريح والأشجار والغياب..
تصنع الصدفة قدرا، وأسئلة لا تنام، فتغيب الخيارات، ونلحق بالركب على سفينة الحيرة، نركب عباب البحر مرغمين، وتسوقنا الريح خارج الوقت..

يسكنني جنون الكتب، مولعة برائحة مكتبتي، وحدها تملأ خوائي، لاشيء في هذا العالم غيرها يمت بصلة لقوم أعرفهم ويجهلونني، أسافر إلى أرضي الأولى، أملأ صدري ونظري بألوانها، بالدفء المشع الذي يصعد منها، بسرها الذي لا أدركه، أُشبع جوعي، أدخلها وأخرج كاملة، معي النسائم المالحة التي يجود بها البحر، والأشعة الصباحية التي تخترق عذرية الستائر، أشجار الزيتون والبرتقال، رائحة المسك، وزهر الياسمين الذي تحمله عربات الليل، حتى الأدوات الصدئة التي كانت تستريح فوق العشب المبلل..كلها معي..

في لحظات الخلوة وساعات الضجر، أبحث عن أي شيء يعطي معنى لمنفاي، لحلمي الهش، يأتيني صوت أرضي متسربا من بين أشجار الصنوبر العاليات، مخترقا الصخور والوديان، وقلقي الذي أتملص منه في لحظات الغفلة، أهرب من أشواقي المنكسرة وهسهسة الماء في عشية ربيعية..

لا..لا..لست نسمة هاربة معلقة بين السماء والأرض، الأمل..هذا الشعور أجمل ما فيَّ، لن يُسرق مني، لن تهزه نداءات الاستغاثة التي تملؤني، هناك خيارات أخرى أقوى من قرار الصمت وحفنة ماء وضعها الله في عمق الحرائق لعباده العابرين..

لم أكن أهذي، لم يكن هناك أصلا داع للهذيان، ربما كانت خطوطا تشابكت في لحظة خاطفة، أو مقطعا من كتاب احتفظت ببعضه ذاكرتي فصغته لاشعوريا بطريقة مبهمة..أراه نشيدا حزينا يئن تحت وطأة النفس القاسية..وربما يكون شيئا آخر..


لست أدري..

08 مارس 2012

ذاكرة أندلسية ( إشبيلية )

16 تعليق


في إشبيلية..
أرى برق القصيدة
يسير في السماء
فوق الحارات القديمة
وفي حصى كْوَدَالْكِيفِيرْ
يزحف الوجع إلى جسدي
على ما تبقى من فتات الرحيل
ينقر العصفور بقايا سنبلة في يدي
ويعيدني إلى ظلي..
خلف سياج الحرير


في إشبيلية.. 
يتحدث العود مع الخيول الأندلسية
وتطير الحمامات فوق الْجِيرَالْدَا
وحول القلاع وبين الغرباء
تضيء أجنحتها جرحي القديم
وتجعل موتي أطول
وأنا أفتش عن تفاحات المنصور الذهبية
فوق المئذنة..
وأصغي لحنين الناي
يعزفه عابر إسباني في قصر لَلْكَازَارْ


في إشبيلية..
تدق نواقيس الجامع الكبير
وتمتد أشجار البرتقال
إلى سوق الخياطين والعطارين والصباغين
وأرى رذاذ الليمون
ينثره بنو مرين في الهواء
أرى سلاطين المغرب ومراكش الحمراء
وعصفورة تنام وحيدة أعلى برج الذهب
ونخلة تسند الزمان على سور الْماكَرِينَا
تقاهر العصور..
لتحمينا من فِرْدِينَانْدْ القادم من لامكان..
 

01 مارس 2012

ليلٌ وماض وبطاقات..

13 تعليق


لم يغمض لي جفن، إلا وسنات خاطفة في ليل  ثقيل السواد، تحركت كوامن الشجن بداخلي، دون داعٍ، طاحونة الأفكار تفتتني، أفتش فيما راعني، وأشقى ببعضه، أنتظر بياض الفجر لأتخلص من ميراثي الثقيل..


ماذا أفعل يا ترى بالكم الفائض من الذكرى،  تلك التي باغتت خاطري على غير موعد؟ وهل كان الأوفق أن أتركها خامدة تتكئ عليها سنواتي الثماني والعشرين ؟..

في ليل بليغ السكون، يمرون بالبال، كحلم باسم في قلب محزون،  فأضطرب  لذكراهم، تغادرني الملائكة الرحيمة، ثم ما تلبث تخايلني فكرة الصراخ بصوت جهير هادر..لكن..أسيسمعون؟..
أنطوي تحت ملاءتي البيضاء، الصراخ لا يعلو، أشغل نفسي بالتقاط الهمهمات، كما أفعل لحظة الانهزامات الكبرى..لا أقل ولا أكثر..

أجلس أرضا، فوق بساط أخضر، كنت قد نسيت هذه الحركة منذ زمن، وجدتني ألعن في داخلي المتكأ الرخو الذي يمنعني من أن أنبطح أرضا..تبا للحداثة التي ما فتأت تقتلعنا من جذورنا، هذا الفعل المبهم، لأمر خفي،  جعلني أنعم بهنيهات سكينة ومتعة غير مألوفة..

على ذات الأرضية الصلبة، افترشت ذاكرتي، واستحضرت ماضيَّ، حزمة بطاقات ومعايدات، رسائل محبة وشوق، رسائل عتاب وفراق، كلمات وداع إلى اليوم تنخر عظمي وأنا أترك عمرا ورائي ووطنا..وأرحل.. وجوه لم تخفى عني وأخرى ما عدت أتذكرها جيدا.. 


سويعات طافحة بالتيه، وعدت إلى واقعي، أتأمل أول بطاقة تلقيتها من أبي، بارك الله في عمره، احتفظت بها ثلاثة عشر عاما، ولازالت معي، كنا ثلاثة بنات وكنت الوسطى، وعلى غير عادته، أهدى لكل واحدة منا بطاقة مع حلول العام الجديد ، كان ذلك سنة ١٩٩٩، الصغرى تضمنت بطاقتها براءة طفلة بشرائطها الحمراء والكبرى يظهر عليها حيوان مفترس قال حينها أنه يماثل طباعها الحادة، وكانت لي الطبيعة، قال هنا مكانك، أنت هادئة كهذه اللوحة..تحنانه الأبوي زادي مذ وعيت، ولازال..


بين حلم النبوغ واحتدام التنافس وصحاري الأرق والليالي البيضاء، كانت هناك ابتسام، وعلى وقع خطى عقلي الرتيبة، في شوارع مكناس، تظهر لي ضفائرها الثلاثين أو تزيد، كانت تسريحتها المفضلة (الراسطا) كما يسمونها، خلوقة طيبة سموحة باسمة، كانت مستودع أسراري كما كنت لها، آخر دمعة طعمها المالح امتزج في مقلتينا لحظة الوداع الأخير، رحلت عنها إلى الرباط، ومن هناك إلى باريس والتقينا في إحدى العطل الصيفية بوجدة، وشاء القدر أن تنقطع الأخبار وقد غابت عني التفاصيل..


من بين كومة البطاقات، تلك التي اندست خفية في حقيبتي المدرسية، لا تحمل تعليقا عدا كلمة ( بدون تعليق)..إلى اليوم أجهل الفارس المستتر، احتفظت بها، ربما هي هدية من السماء :)..

لا شك أن أجمل العمر ذاك الذي مضى، ليته يعود، وهند معه، وامتحانات الباكالوريا واستعداداتنا وخزعبلاتنا وهرطقاتنا، كانت نسخة من ابتسام، ذات الطيبوبة وذات الحنو، ابتسامتها التي ما نسيتها يوما، جمعنا نفس القسم الدراسي، وفرقتنا مادة اللغات، كنت أفتقدها كثيرا حين تتوجه نحو الأدب الإنجليزي وأسير نحو نظيره الإسباني ثم نفرح بلقاء بعد فراق..
كانت صديقتي الوحيدة، بعثرنا السلك الجامعي، حين اتجهت لدراسة الأدب الإنجليزي واخترت الحقوق، وسيفرقنا بعد ذلك القدر، فأغادر إلى باريس وترحل هي إلى إسبانيا..


وفي تلك المدرجات، مع دكاترة القانون وأساتذة العلوم السياسية، كانت مجموعتنا المصغرة، هشام الأول وهشام الثاني وجواد ووحيد وأنا، كنا خمستنا لا نفترق أبدا، ندرس معا ونمزح معا ونراجع معا ونخرج معا..وكان أبي يكن لهم من الحب الكثير، فقد كانوا خير مثال للشباب المغربي الناضج والمثقف، كنت أشعر بحمايتهم وحرصهم ونقائهم..صداقتنا لم تشبها شائبة حتى آخر لحظة ودعتهم فيها والحزن يعتصرني..
الفايسبوك ساهم في عثوري على صاحب الحلم الأمريكي كما كنا نسميه، جواد، وابتسمت حين علمت أنه مستقر بفيلادلفيا وقد يزورني في باريس، أما الثلاثة الآخرون فلا أدري من أمرهم شيئا واأسفي.. 

ضممت إلي الرسائل والبطاقات، سكنت روحي، نامت كطفل رضيع في خدر السنوات الماضية، تلتها زفرات ملتاعة، أخذتني في غمرة من النوم، لأرسم ملامحهم على اللوحات المعلقة على الحيطان..
سكن الصخب بداخلي، لم يعد حولي سوى الفراغ، وذكرى مؤلمة، ليس لأنها قاسية، بل لأنها كانت عكس ذلك ويحزنني فواتها..

غابت الوجوه..وبقيت هانئة، أنام بين البطاقات..

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More