24 مايو 2012

ذاكرة أندلسية ( قرطبة )

16 تعليق


الأزقة ضيقة والدروب خاوية، لا لون للسماء، الغيمات مجعدة، الشرفات مغلقة والستائر مسدولة، أرنو إلى البيت الذي خلا من سكانه، أزهار صفراء يابسة تنظر إلي، أتفاداها، الصحن الوسطي جف منه النبع، والغرف التي تلتف حوله جفت منها الحياة..لا أسمع صوتا، لا أسمع صوتي، أتساءل عما يدور ببال الصمت..
يجيبني الصدى: إنه جيش مهزوم عائد من معركة خاسرة، يجمع أشلاء الخيبات في سكون الظهيرة على أنقاض مدينة الزهراء..أنتِ تبعدين بثلاثين كيلومترِ خيبةٍ عن قرطبة..

أمشي، الساحة خالية والمشهد ذاته، سكون رهيب، وأنا أكره الهزيمة، سأبحث عن شيء في اللاشيء..
مهلا أيها الانتظار، أَرْهِفِ السمع، شيء ما يأتي من عتبة دار المدنيات، إنه لحن زرياب يخرج من أسوار المدينة الخالدة..
تنفجر الموسيقى من بين أصابعه وموشحات لا عهد لي بها، رذاذ حنون يسقط فوق جبيني، أرتشفه، تسوقني الريح ويذوب اللحن الأندلسي في دمي..

أعبر قنطرة الوادي الكبير إلى ضفة جامع قرطبة، تحملني النسمات إلى الداخل على غير هدىً، يبتعد نظري إلى حيث أجدادي الموتى، أسير بين الأروقة، أنظر إلى قباب المسجد وأقواس الآجر الأحمر وقطع الحجارة الصفراء والفسيفساء والسقف والأعمدة والجدران المنقوشة باسم الله،  تلك اللحظات عصية على الإدراك، تنتهي بغلبة الشوق على القلب..
أضع وشاحي على رأسي وأصلي، تفاجئني عواطفي..شرسة، قلقة، غامضة، قنوعة، خائفة، راضية..
أتأبط ذاكرتي كيلا تقع، أبحث لنفسي عن مكان في فناء المسجد المغروس بالأشجار، تطير حولي الحمامات، أرقبها وهي تبحث عن شربة ماء من سقايات الجامع ونوافيره، أوجه بصري نحو المئذنة، أعود إلى عصر الخلفاء الأمويين، أستحضر أولئك الذين تركوا بعضا منهم.. ورحلوا.. 

أغادر وتبقى دمعتي عالقة هناك..

صفير الريح الهادئ يكنس الغبار عن وجه العابرين، وجوه شقراء باردة، لا تشبهني، متسارعة الخطى، تنظر إلى هذه الغريبة.. أي ريح حملتها إلى مكان لم يبقى من وجودها فيه سوى الأثر؟ ..
جرح ضخم ومفتوح كان ينزف وقتئد، وأنا أبدو ككائنة غريبة حكم عليها بالطرد قبل خمسمائة وعشرين عام، تمتمت بشبه كلام لم أفهمه، عيوني زائغة وحماسي غائب، لبستني حيرة لم أعتدها، وكأنني أركب سفينة المنافي مكلومة منكسرة، أستعد للموت البطيء داخل سفن الترحيل .. 

مر الزمن بطيئا، وأنا أبحث عن قصر الإمارة، وعن أحواض الرخام وصهاريج المياه العذبة التي جادت بها جبال قرطبة، عن أشجار الصنوبر الحلبي  ونوار الشمس وشجيرات الشام وحدائق قصر الرصافة، عن مسك الليل وأشجار الزيتون والكروم، عن الأسواق والحوانيت والحمامات.. وعن بقايا الأمير عبد الرحمن..
انهالت علي الأمطار، تضرب وجهي، تحجب عني الرؤيا، حبيبات الثلج الصغيرة تتساقط فوق جبيني، ولا أشعر وأنا مندسة تحت شجرة البرتقال الكبيرة، إلا بوخز في قلبي..

مرت علي لحظة غريبة، لم أعرف كيف أفسرها، كانت قرطبة الكون، وكنت لاشيء، وكل شيء.. عمت مسحة من الأسى ملامحي، نفضتها.. ومضيت..

04 مايو 2012

اللوح الأزرق

19 تعليق


"هل القدر هو من يوجهني إلى بلاد أدمنتها وتسكنني أم هي حواسي تسوقني إلى ربوع الأندلس حيث تختلط في وصفها العبارات" ؟

انتهت الصفحات الخمسمائة وإثنين وستون، وبقيت أتفكر في العبر التي جاء بها الكتاب ..
المكان إسبانيا والزمان إبان سقوط الأندلس وتناحر ملوك بني الأحمر على السلطة واقتتالهم في سبيل المجد الزائف الذي سيفتك بغرناطة، آخر المدن الأندلسية الصامدة ..

ما كنت مخطئة هذه المرة أيضاً حين اخترت كتاب اللوح الأزرق لجيلبيرت سينويه، فقد تركت رواية ابن سينا طابعا عميقا في نفسي جعلتني أبحث عن مفاجأة أخرى لذات الكاتب.. فكان اللوح الأزرق ..

هذه الرواية تبين الثقافة الواسعة للكاتب واطلاعه على الأديان السماوية الثلاث، فما تحمله من آيات قرآنية وأجزاء من الإنجيل وما جاءت به الثوراة تجعلنا نصفق له تقديرا وإعجابا.
تجسد الرواية فترة كانت الأشد مرارة، حيث سقطت الدولة الإسلامية في الأندلس، وغرناطة صارت قاب قوسين أو أدنى من الضياع، كما ظهرت محاكم التفتيش في إسبانيا ونقض ملوكها عهودهم باحترام باقي الأديان، أما حملات التنصير فعلى أوجها، تدعمها الكنيسة والملكين فرديناند وإيزابيلا..
هذه الفترة كانت عصيبة على المسلمين كما كانت على اليهود، وقد أرخ التاريخ فيما بعد ويلات تلك الحروب والوحشية والتنكيل التي اعتُمدت مع غير النصارى، وابن برول، بطل الرواية، واحد من ملايين كانت تقتاد كل يوم إلى المحرقة..

من هنا كانت البداية، حين اقتادت محاكم التفتيش "ابن برول" بائع اللوحات الزيتية، الرجل اليهودي والحبر العالم وآخرين غيره من اليهود والمسلمين إلى المحرقة بتهمة الهرطقة والارتداد عن الدين المسيحي وممارسة شعائرهم الدينية خفية ..
ويُحرق ابن برول بعد أن ظل متشبثا بيهوديته رافضا تغيير ديانته لحساب النصرانية.

نهايته بداية القصة، حيث كتب قبل موته ثلاث رسائل لثلاثة أشخاص من ثلاث ديانات مختلفة، تحمل كل واحدة منها كلمات مشفرة لا تكتمل إلا بالتقاء الرسائل الثلاث، وذلك بغرض الوصول إلى اللوح الأزرق، لوح من الحجارة الكريمة يحمل سرا إلهيا، وحكما سماوية . 

لفك الشفرات التي قسمها بطل الرواية إلى ثمان قصور، يجبر الأشخاص الثلاثة وهم المسلم الشيخ ابن سراج واليهودي الحبر المسن عزرا والراهب الشاب المسيحي رافائيل فارغاس إلى التعايش بينهم لفك الألغاز المعقدة وتتبع الإرشادات رغم اختلافاتهم العقائدية، فتبدأ رحلة البحث المضني ما بين غرناطة وطليطلة وسلمنقة ومدن أخرى أندلسية عن العلامات التي قد تحمل معنى، قبل أن يسرق خادم ابن سراج أوراق سيده وتسقط في أيدي محاكم التفتيش، لتُرسَل بذلك مانويلا، صديقة الملكة لاقتفاء أثرهم وتندس جاسوسة بينهم، لكنها سرعان ما تنبهر بسعة علمهم وتتخلى عن دورها في الدفاع عن الشر الذي ما ارتضته يوما وتتأكد من حسن نية الرجال الثلاثة..

الرحلة نحو اللوح الأزرق وعرة ومحفوفة بالمخاطر، لكنها لقنت الثلاثة رغم اختلافهم دروسا وعبرا ليست بالهينة، واتفقوا على الوحدة في سبيل قضية سامية ما كانت لتكتمل لولا تضافر جهودهم مجتمعين..

سأترككم تكتشفون خبايا الكتاب، لكن قبل ذلك أوافيكم باستنتاج بسيط مفاده أننا مهما اختلفنا، واختلفت دياناتنا، لا يحق لنا  إجبار الآخر على اعتناق أفكارنا ومعتقداتنا، بل كل رسالة سماوية هي مكملة للأخرى، وعلى هذا المبدأ تنبني طريقتنا في التعامل مع الآخرين على أساس الحب والاحترام والتسامح بكل ما تحتويه هذه الكلمات من إنسانية .

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More