"لو كان العالم كله دولةً واحدة، لكانت إسطنبول عاصمتها".. هكذا قال نابليون بونابرت وهكذا سأقول أنا..
على مضيق البوسفور تنام المدينة بين قارتين، تقف بينهما أعلى الجسر شامخة تروي حكاية الإمبراطوريات الثلاث، يحتضنها القرن الذهبي، تصير لؤلؤة حين تهبط الشمس على الماء فتتشكل هالة من قداسة تلف هذه المدينة الخرافية الحسن..
للمدن ذاكرة لا تنسى، ولنا في العمر لحظات لا نعرف كيف نفسرها ولا كيف نقبض عليها، تسكننا الأماكن وتمتلأ صدورنا بالألوان، تكون قريبة منا كظلنا، كابتسامة هاربة تنزلق بين الشفتين، تتقاسم معنا وحدتنا وتخمد حرائقنا الداخلية فيغدو حس الحياة أقوى وأجمل..
بعيدا عن الحياة الباذخة التعب، أغمضت عيني المثقلتين برائحة الملوحة وبدأت أحصي دقات قلبي وأصغي لصفيق الأمواج دون مكابدة، الشمس رائقة تخفي تكدرها، أقرأ الدهشة في عينيها قبل أن ترميني بعيدا، ألقي بصري إلى عرض البحر، وأتبع المراكب إلى أن تفرغ حمولتها.. وقفت احتراما للمدينة.. لسيدة الجمال والأمكنة..
في غير حالتي الطبيعية وفي لحظات انتشاء، كنت أقيس أعمار الدروب والأزقة الملتوية والشوارع الخلفية، الدكاكين الصغيرة والباعة المتجولون والراجلون يعزفون على إيقاع واحد، زوايا أنيقة يغطيها سجاد وزرابي مفعمة بالألوان غطتها الظلال تربط الماضي بالحاضر..
طقوس هذه المدينة على قدر كبير من الغرابة ألهبت مشاعري، تشرع لك كل الأبواب الموصدة.. القبب والمآذن والمساجد والكنائس والقصور والأسواق والروائح والألوان ، تخفف شطط المنفى، تعيد الماضي ركضا وصلات متتالية، وتجعلك عاجزا عن الكلام، حقول الخزامى على امتداد البصر لا تنتظر طويلا كي تزهر، تبدو وكأنها عرس من ألوان..
كانت عيناي مركزتين على مدينة لا تحتاج وثيقة عبور لتحبها، غطست بملء إرادتي في التفاصيل الصغيرة واكتشفت أن قربي منها يزداد كثافة وأنني أتخلص من أثقال الحياة وأسافر في سماوات لا يعنيني بعدها ما يحدث على الأرض.. لكم أغبطني على هذا الصفاء وعلى هذه الفتنة الغير مسبوقة..
في لحظات سلام داخلي كنت أسمع صوت "لامارتين" وهو يردد: "هناك الإله والإنسان، الطبيعة والفن، كلها اجتمعت لتصنع هذه المدينة الرائعة، إنها فعلا تستحق أن تُرى"..