اخترت لكم هذه المرة عملا أدبيا عملاقا، ينقلنا من خلاله جيلبرت سينويه إلى عوالم أكبر علماء المسلمين "أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي ابن سينا"، على لسان تلميذه ومرافقه " أبو عبيد الجوزجاني"، يحكي قصة خمسة وعشرين عاما إلى جانب ابن سينا مذ نجاه صبيا من الموت ..
في هذا الكتاب، تكلست شراييني تارة وانفرجت أساريري أخرى، راودني الشك ووقفت على اليقين، إنه كتاب فريد، مليء بالأضداد والمتناقضات، رحلة في حياة الطبيب العالم حيث العذاب والنعيم والشهوة والفسق والورع والعلم والفقر والغنى، فيه يرحل ابن سينا إلى أقاصي الأرض ومغاورها، بين الشقاء والرخاء، فيه عذاباته وترحاله وصحبه واضطهاده، كتبه ورسائله وأدواته، إقامته في بلاط الملوك وجهلهم، مصيره المتقلب بين نفوذهم ونزواتهم..
كتاب يحمل من عبقرية الرجل ما يصيبك بالدهشة الكبرى، وكيف جمع بين الطب والفكر والفلسفة، كيف كان يستحق لقب الشيخ الرئيس وهو لم يتجاوز الثامنة عشر بعد.
لم يعتمد سينويه على الصفحات العشرين فقط التي دون فيها الجوزجاني رحلته مع معلمه في سرد وقائع حياة ابن سينا، بل تجاوزها ليربط الأحداث بوقائع تاريخية في دقة متناهية لا تشي سوى باطلاع شامل على مختلف جوانب شخصية ابن سينا الأسطورية.
هذا العمل الأدبي الضخم فيه أسلوب سردي مشوق وبديع لم أرى نظيرا له، وكأن الكاتب رافق العالم خطوة خطوة، أحاط بجميع التفاصيل ولم يهمل منها جانبا، أحكم حبكة النص فوُلد عمل باهر بالفعل..
كان هذا الجانب المشرق من الكتاب، أما نقيضه والذي حيرني بشدة، ومؤكد أنه سيفاجئ كل مطلعٍ عليه، يكمن في الجزء الآخر من شخصية ابن سينا، التي لم أعرفها قبل هذا الكتاب، أهي صحيحة أم مغلوطة لست أدري، لكنني أحترس من تصديق كل ما جاء به الكاتب هنا، فكيف لعالم جليل كان نابغة عصره وآمن أكثر من غيره وزهد في الحياة في سبيل أهدافه النبيلة أن يجمع بين الورع والفجور، وكيف يتمرغ في وحل الخطيئة ولذات الجسد وهو الذي لازم بيوت الله..
ربما هو غرض في نفس الكاتب الفرنسي الذي ترعرع في مصر، جعله ينسب ابن سينا إلى أصول يهودية ويصوره غارقا في الخمر والمجون..
ومع كل هذا الزخم من المعلومات الغامضة، ستستمتع عزيزي القارئ برحلة ابن سينا قبل أن ينطفئ نوره على مشارف همدان ( إيران حاليا ) عن عمر لم يتجاوز السابعة والخمسين عاما، ستعبر الصحاري والوديان والسفوح والجبال، ستستحم بماء السواقي، تستلقي أرضا تفكر معه في سر الكون، تعد النجوم وتمر بالأسواق والحارات، تدخل بلاط الأمراء وتعيش بذخ السلاطين، تطلع على قذارة السياسة والتناحر من أجل السلطة، ثم تهوي مع أول خيوط الفجر حيث الفقر المذقع، تبحث عن قربة ماء وكسرة خبز..
ينتهي الكتاب وتبقى كلمات الجوزجاني عن معلمِه عالقة : " لم يزل اسمه ملفوظا وذكره محفوظا من سمرقند إلى شيراز ومن أبواب المدينة المدورة، بغداد، إلى أبواب الإثنتين والسبعين أمة، ومن فخامة القصور إلى ضواحي طبرستان، ولم يزل الصدى يترسل بأخبار عظمته في أرجاء المعمور " .