الأزقة ضيقة والدروب خاوية، لا لون للسماء، الغيمات مجعدة، الشرفات مغلقة والستائر مسدولة، أرنو إلى البيت الذي خلا من سكانه، أزهار صفراء يابسة تنظر إلي، أتفاداها، الصحن الوسطي جف منه النبع، والغرف التي تلتف حوله جفت منها الحياة..لا أسمع صوتا، لا أسمع صوتي، أتساءل عما يدور ببال الصمت..
يجيبني الصدى: إنه جيش مهزوم عائد من معركة خاسرة، يجمع أشلاء الخيبات في سكون الظهيرة على أنقاض مدينة الزهراء..أنتِ تبعدين بثلاثين كيلومترِ خيبةٍ عن قرطبة..
أمشي، الساحة خالية والمشهد ذاته، سكون رهيب، وأنا أكره الهزيمة، سأبحث عن شيء في اللاشيء..
مهلا أيها الانتظار، أَرْهِفِ السمع، شيء ما يأتي من عتبة دار المدنيات، إنه لحن زرياب يخرج من أسوار المدينة الخالدة..
تنفجر الموسيقى من بين أصابعه وموشحات لا عهد لي بها، رذاذ حنون يسقط فوق جبيني، أرتشفه، تسوقني الريح ويذوب اللحن الأندلسي في دمي..
أعبر قنطرة الوادي الكبير إلى ضفة جامع قرطبة، تحملني النسمات إلى الداخل على غير هدىً، يبتعد نظري إلى حيث أجدادي الموتى، أسير بين الأروقة، أنظر إلى قباب المسجد وأقواس الآجر الأحمر وقطع الحجارة الصفراء والفسيفساء والسقف والأعمدة والجدران المنقوشة باسم الله، تلك اللحظات عصية على الإدراك، تنتهي بغلبة الشوق على القلب..
أضع وشاحي على رأسي وأصلي، تفاجئني عواطفي..شرسة، قلقة، غامضة، قنوعة، خائفة، راضية..
أتأبط ذاكرتي كيلا تقع، أبحث لنفسي عن مكان في فناء المسجد المغروس بالأشجار، تطير حولي الحمامات، أرقبها وهي تبحث عن شربة ماء من سقايات الجامع ونوافيره، أوجه بصري نحو المئذنة، أعود إلى عصر الخلفاء الأمويين، أستحضر أولئك الذين تركوا بعضا منهم.. ورحلوا..
أغادر وتبقى دمعتي عالقة هناك..
صفير الريح الهادئ يكنس الغبار عن وجه العابرين، وجوه شقراء باردة، لا تشبهني، متسارعة الخطى، تنظر إلى هذه الغريبة.. أي ريح حملتها إلى مكان لم يبقى من وجودها فيه سوى الأثر؟ ..
جرح ضخم ومفتوح كان ينزف وقتئد، وأنا أبدو ككائنة غريبة حكم عليها بالطرد قبل خمسمائة وعشرين عام، تمتمت بشبه كلام لم أفهمه، عيوني زائغة وحماسي غائب، لبستني حيرة لم أعتدها، وكأنني أركب سفينة المنافي مكلومة منكسرة، أستعد للموت البطيء داخل سفن الترحيل ..
مر الزمن بطيئا، وأنا أبحث عن قصر الإمارة، وعن أحواض الرخام وصهاريج المياه العذبة التي جادت بها جبال قرطبة، عن أشجار الصنوبر الحلبي ونوار الشمس وشجيرات الشام وحدائق قصر الرصافة، عن مسك الليل وأشجار الزيتون والكروم، عن الأسواق والحوانيت والحمامات.. وعن بقايا الأمير عبد الرحمن..
انهالت علي الأمطار، تضرب وجهي، تحجب عني الرؤيا، حبيبات الثلج الصغيرة تتساقط فوق جبيني، ولا أشعر وأنا مندسة تحت شجرة البرتقال الكبيرة، إلا بوخز في قلبي..
مرت علي لحظة غريبة، لم أعرف كيف أفسرها، كانت قرطبة الكون، وكنت لاشيء، وكل شيء.. عمت مسحة من الأسى ملامحي، نفضتها.. ومضيت..