بين ممرات الدهر، تمر مسرعة الخطى، بلباسها الرمادي الأنيق وشعرها المصفف بعناية، تتبعها مرغمة حقيبة السفر السوداء، تجرها كما تجر خيبتها المرسومة على شفتيها، رغم احمرارهما الخفيف .
تنتظر القطار القادم، كما القدر الذي سيحملها إلى اللامكان، وهَمٌّ يضطرم في فؤادها، لا تراه إلا سرا مذاعا تفضحه عيناها السوداوتين..
غادرته وجذوة نار تتقد في أوصالها، على برهة من الزمان عاشتها تحت ظل الحب، رحلت وهي تحمل من الموجدة ما يكفي ليبيد خلايا ذاكرتها بالغيظ الأفاك..
عاشت في نفسه أكثر مما عاشت في نفسها، حين كان يستوطن دفاتر قلبها، ويقلب صفحاتها كما يشتهي، كان يجد خلاصه في براءة عينيها المسالمتين، وهالة من نور تحيطهما كانت تنير غده الغامض..
تتهافت الأسئلة الصارخة، تحاول حجبها، دون جدوى، تتذكر أول لقاء لهما في محطة المترو، تبللها قطرة حارة، عندما ترتسم لوحة النهاية بوضوح، تخبرها أنها خسرت كل شيء، لكنها ربما ربحت نفسها..
ذلك الرجل الغريب، رجل العواصف، الرجل الزئبقي التي اهتزت أنوثتها أمام قوته، صار جزءا من خبر كان، ولم يعد، أُضيف إلى سجل الغرباء، تحمله الان لائحة تحوي قائمة الموتى..موتى الشعور..أو هما في نفس الوقت..
لم تكن لتقاوم روحها الهائجة، ولا رغبة لها في معاشرة لذة الانتقام..فضلت الرحيل، تلملم عنفوان امرأة..في صمت..
مر القطار بسرعة الضوء، ومرت أسطوانة الذكرى على مسامعها، مشروخة كما لحظة غضب قاتل، راجعت معها فهرس حياتها، رأت سحابة الحزن تحوم فوق سمائها، تسائلت إذا ما كانت ستسعد بقرارها، أم أنها نحتت بكلتا يديها شكل بؤسها...
رحل الليل إلا أقله، ومازالت واقفة في مكانها، تسائل نفسها، ..ترقب حركة القطارات وهي تجيء وتمضي..تنصت في دهشة لما قد يحمله صوت صفارات الإنذار..