يزعجني ضوء النهار، فأنتظر هدأة المساء في ليل مترامي الحزن، يغالبني الوسن وأقاومه، كما أقاوم شظايا بنادقهم المتفشية في الصدور وفي الطرقات وشاشات الأخبار، تفصّدني رائحة الموت، تجرني إلى تيه ذهني استهلكت فيه احتياطي العقل، تطن أصوات بداخلي لا صدى لها، أتكوم على نفسي ليهجع صراخ الصبي، وحين يرتفع ذويه ويشتد وطأة، ينسال خيطان من الدمع على وجهي.. أنكمش على ذاتي.. وأحتقرهم..
عيوني شاخصة إلى زمان غير الزمان، تغيرت أشجار المكان ونوارس البحر وذكرى الغائبين والعبارات على دفتر الليل، وبقيت مناديل أمي في هذا الخواء تطل على جسدي الخائف وهو يفرغ حمولته الزائدة، ويطرد الكائنات الواقفة على صدري، نصبتُ الخيام على سطح قلبي العالق بين الأنات، حملتُني عبء الحاضر وتركت الغد يحمل في حقائبه خيباتي المكدسة، وتلك الريح، هي الان غير التي صادقتها، تسير في جهة مبهمة.. وأنا غيري..
ثمة شيء يكسر أجنحة الكلام في هذا الليل الداكن كأمسي، الخافت كأضواء معبد، المتناقض قليلا، المتناقض كثيرا، أقايضه بمكرمة وأفاوض آلهة المساء لتأتيني بنهاية لا تشبه البداية وبوجود لا يشبه العدم، لئلا أقع في شرَك الحلم مرتين..
أعيد تكوين المسافات لأبرأ من صهيل الأرض، لأشعر بضجر الأحياء ونشوة الموتى وهديل الحمامات وظلال الأمكنة وبكاء الغيمات وسيوف الغزاة وقهقهة الريح وضحكة الوديان وفاكهة الحياة.. ولا أشعر..
لم يتركوا لي سوى ذاكرة تسافر فيها النوتات الحزينة على عجل وقلب تحجر على الإسفلت،
وحيد يركب بحر الرماد ويحمل تابوته بيديه مشدود في جرح الليل إلى مراثي الغائبين..
وعلى جبهتي حلم أبيض وغزالات تركض خلف الشفق الأحمر تنام فوق رموش الغيمات، ونظرة متعبة تهز بعنف جرح المدينة..
أغطس في زحام الذات، أنفض الدخان عن رئتي، أجتاز سردابا من وساوس، تتعرى أمامي الأغنيات الزائفة، تمتلأ صحرائي بالغمام وتطفو كل الجروح الصغيرة، ندبة ندبة، أدق على باب الفجر لئلا يجهض الورد.. ورغم كل الموت.. أرفض أن أموت..