جسر ميرابو فجر اليوم على حافة نهر السين |
أعمدة النور على جسر ميرابو لم تزدني إلا التصاقا بحافة "السين"..
تستلني ملامحه من بساط النعاس، وعلى غير هدى تقودني ظلال المساء إلى مقهاي المعتاد في شارع سان سيفران، أقلب صفحات من كتاب، يتواطؤ هو الآخر مع وجعي، هل كان صاحبه يكتبني دون أن يدري ؟ ( بعيدٌ أنتَ كليل المسرات.. ألستَ معي في هذا؟ ما الذي يبقيني حية في هذا الزمن البارد، لولا انتظاراتي، وشيء آخر أيقظني من سبات الحياة الرتيبة، لطالما شدني إليكْ، ودفع بي نحو هذا المكان، تحدق بي ولا تدري ما هو.. أوتتناسى، أليس كذلك؟..)
لا أسمع سوى خشخشة الأوراق، أحتسي الصمت المتمادي في غيه، أدفع جبروته بسلاح الكتابة قبل أن تنسحب الكلمات.
المدينة نائمة، حبيبات المطر تغسل الطرقات خجلى، أمشي وحيدة حتى ساحة سان ميشال التي هدأت للتو، تقودني قدماي نحو الحي اللاتيني، أكنس ببصري شوارعه الخلفية الضيقة، مطاعمه ومقاهيه التي أوصدت أبوابها في وجه الغرباء، في هذا الحي تجتمع في تناغم كل القارات، تسمع كل اللغات، وترى كل الوجوه والألوان، إنه الآن خال من كل هسيس إلا من غيابه المتعب الذي يصعب ترميمه، أصل جسر ميرابو، الضباب دافئ على غير عادته، طوق ليل باريس بوشاح من البياض، أجج شهوتي للبقاء مسمرة وحدي، كل ما هنا يخبرني أنني عشت اللحظة من قبل، وفي كل مرة أشتهيها وكأنها الأولى، شيئا فشيئا تندفن تفاصيله فيّ كليا، يأتي صوته كهدية مسائية تطرق مسمعي.. كيف عرفت قبله أناسا كثيرين، وكيف لم يهزني بعمق سواه!..
القلب لا يحيا من غير ساكنيه، سكرات الحنين مريعة، وغيابه أكبر حالة قهر أصابتني..
أليس عبثا أن نعاند القدر ونجاري أحلاما لا أمل في تحويلها إلى واقع ؟
أشعر به يتحسس خطوي ويناديني.. بلا صوت، أبحث عني على سطح النهر، لا تزال في صورتي بقايا مسحات من الفرح،
ربما هي خدعة الحياة، رد فعلها غريب دائما، تداري سوءاتها حين تؤلمنا بسخاء، أخوض حربي المسائية، إلى أن أنتهي إلى المعادلة الناقصة: "إذا لم نلتق ليس مهما، فهناك شيء ما جميل مشترك بيننا يمدنا بالحياة من حيث لا ندري"..
( المقتطف مابين قوسين للكاتب المميز ناصر الريماوي )