24 أغسطس 2012

فضفضة على نهر السين

16 تعليق


جسر ميرابو فجر اليوم على حافة نهر السين

أعمدة النور على جسر ميرابو لم تزدني إلا التصاقا بحافة "السين"..

تستلني ملامحه من بساط النعاس، وعلى غير  هدى تقودني ظلال المساء إلى مقهاي المعتاد في شارع سان سيفران،  أقلب صفحات من كتاب، يتواطؤ هو الآخر مع وجعي، هل كان صاحبه يكتبني دون أن يدري ؟ ( بعيدٌ أنتَ كليل المسرات.. ألستَ معي في هذا؟ ما الذي يبقيني حية في هذا الزمن البارد، لولا انتظاراتي، وشيء آخر أيقظني من سبات الحياة الرتيبة، لطالما شدني إليكْ، ودفع بي نحو هذا المكان، تحدق بي ولا تدري ما هو.. أوتتناسى، أليس كذلك؟..)
لا أسمع سوى خشخشة الأوراق، أحتسي الصمت المتمادي في غيه، أدفع جبروته بسلاح الكتابة قبل أن تنسحب الكلمات.

المدينة نائمة، حبيبات المطر تغسل الطرقات خجلى، أمشي وحيدة حتى ساحة سان ميشال التي هدأت للتو، تقودني قدماي نحو الحي اللاتيني، أكنس ببصري شوارعه الخلفية الضيقة، مطاعمه ومقاهيه التي أوصدت أبوابها في وجه الغرباء، في هذا الحي تجتمع في تناغم كل القارات، تسمع كل اللغات، وترى كل الوجوه والألوان، إنه الآن خال من كل هسيس إلا من غيابه المتعب الذي يصعب ترميمه، أصل جسر ميرابو، الضباب دافئ على غير عادته، طوق ليل باريس بوشاح من البياض، أجج شهوتي للبقاء مسمرة وحدي، كل ما هنا يخبرني أنني عشت اللحظة من قبل، وفي كل مرة أشتهيها وكأنها الأولى، شيئا فشيئا تندفن تفاصيله فيّ كليا، يأتي صوته كهدية مسائية تطرق مسمعي.. كيف عرفت قبله أناسا كثيرين، وكيف لم يهزني بعمق سواه!..

القلب لا يحيا من غير ساكنيه، سكرات الحنين مريعة، وغيابه أكبر حالة قهر أصابتني..
أليس عبثا أن نعاند القدر ونجاري أحلاما لا أمل في تحويلها إلى واقع ؟

أشعر به يتحسس خطوي ويناديني.. بلا صوت، أبحث عني على سطح النهر، لا تزال في صورتي بقايا مسحات من الفرح،  
ربما هي خدعة الحياة، رد فعلها غريب دائما، تداري سوءاتها حين تؤلمنا بسخاء، أخوض حربي المسائية، إلى أن أنتهي إلى المعادلة الناقصة: "إذا لم نلتق ليس مهما، فهناك شيء ما جميل مشترك بيننا يمدنا بالحياة من حيث لا ندري".. 


( المقتطف مابين قوسين للكاتب المميز ناصر الريماوي )

04 أغسطس 2012

مهلا أيها المنفى.. تريث

10 تعليق


هذه البلاد رطبة يا حبيبي.. وأنا تعبت من ترميم الكسور..

طفرت من عيني دمعتان، أرأيتهما؟ أرأيت صمتي الساكن مثل الليل، ووهج النار الذي بداخلي، صوتي خفيض لا يسمعه إلاي، المدينة بلا بوابة، الشمس فوق رأسي بعيدة لا أتبينها، شكل البرج الحديدي لا يعجبني..الناس من حولي كثر، لكنني لا أرى أحدا، إنهم غير موجودين..

وتوقفت.. في منتصف الحب، أمسح بيدي الوجع.. غسلت وجهي، وظل الماء يؤلمني..
كل شيء شحيح، ماذا هنا من دفء الحارات وضجيج  الأسواق و نداء العطارين ونكهة الخبازين وصرخات الباعة ورائحة الجلد في سوق الدباغين، على حواف أذني يستقر صوت الآذان ورنين أجراس الكنائس القديمة وطَرْقات الحدادين وصيد البحارة وسواعد الجدافين..

وصورتنا ومريم أو ماريا ونحن نلتف حول نافورة الحديقة الزرقاء بعد أن رشت ما حولها بعطر مسك الليل، تلقننا أسماء الشتلات الأندلسية دون أن نعير وقتها أدنى انتباه للجمال المحيط بنا.. وتسهب في الشرح بعينين سوداوين واسعتين يغمرهما الحب رغم مسحة الحزن التي لم تفارقهما..

على إيقاعات العود وراء أسوار المدينة القديمة وفي حارات فاس البالي يضبط الميزان، ويتشكل عرس من الألوان نجماته نساء الحارة بملابسهن المزركشة  وأجسادهن المضيئة،  كن على موعد مسائي مع الإيقاع بعد أن يفرد النسيم أجنحته وتتوارى شمس الظهيرة خجلى، تتبارز فيه مارانيات الملاح والعربيات في إنشاد تراتيل الحب وما تيسر من الطرب الأندلسي ورؤوسهن وأكتافهن تتمايل مع هسهسة الماء الذي  تسرب من وراء أشجار البرتقال..

على حافة المنفى تستكين الذاكرة، وتختفي أشعة الشمس وراء غيمة لا تنسحب أبدا، تنزلق الأفكار لتطرد عبثية الأقدار دون أن نقوى على النسيان ولا حتى على الحياة..
ويقوى الشوق لأرض لم تعد موجودة إلا في الحلم، أرض كانت مختصرا لكل الآمال، ينبطح فيها الأقحوان على امتداد البصر ويصمد لخمسمائة عام غصن الزيتون، وتقوم الطيور من غفوتها وتخرج الفراشات من كراسات الصغار وتنمو التفاصيل التي كانت في وقت عادية وتبدو الان غير ذلك..

المنفى دائرة مغلقة سحبنا إليها القدر، لئلا تنام أعيننا من جديد، وعلمنا كيف نخفي الوجع ونهب أجسادنا للنار، ثم انسحب مخلفا إيانا كومة رماد..

شيء ما فيه مذاق الصبا وطعم الغياب وأجيج الرغبة ينظر نحوي بعينين شاردتين وذاكرة متآكلة تسرب منها الألم نحو عالم لاشيء فيه إلا الغياب والأسئلة المعلقة..
أنفصل بوجع عن الحياة، وأنام خلف كل هذه الألوان والطقوس والحكايا، أنصت لأنين داخلي غابت وسائل دحره ويرفض أن يرتاح قبل الرحيل ..

02 أغسطس 2012

كيف أعنون هذا الشتات ؟

16 تعليق


تخذلني الكتابة أحيانا، وشهوة البوح، يبدو كل شيء مغيما في ذهني، يخيفني بياض الورق، تتمكن مني حالة قنوط حادة وتتنكر لي اللغة، لكن حواسي تظل مستيقظة تراقب تفريغ الألوان عند مصب الذاكرة، فأتوقف، لأودع بعض تفاصيل الحياة، وأمضي إلى حيث لا يتبعني هدير الألم..

أنتظره أن يأتي، وأحاول أن أكتب.

على حواف الجسر، أمشي خفيفة أسمع نبض دمي، أوقظه على وجع فائت، أتلفت خلفي..
لاشيء سوى هاجس الخطى، وشرفة موصدة في داخلي، لا أحد يمر بها..أفرغتني المسافات من جسدي، من ضحكاتي الحميمات، وماء أحلامي، هزتني حبال الريح، فصحوت، أبحث عن رائحة العشب بعد المطر..

في ساعة لا نظنها يأتي الحزن، خفيفا كالموت، يوسع من نتوءات الحياة، فيبدو كل شيء ضبابيا في باطن الذهن، وتتكاثر الأسئلة المعلقة.. أفكر بلا هوادة، حتى تستقيم الأفكار عند باب العقل، أستنطق ألواني التي مزجتها، وأرى ملامحا لم تكن أبدا واضحة..

كلما اشتهيت الفرح أعود إلى قسمات الصغيرة،  وفي الحقيقة أعود إلي، أبحث عن منفذ للشتات  فوق غيمات من الوهم، أحن إلى الأجفان الصغيرة وهي تغالب أحلاما بلون الفردوس، أستحضرني وأنا أخلط الألوان لأرسم فراشات وأحلم أن أطير معها، في مدينة كنستها الرياح، لكنها لم تبدو لي أبدا باهتة..

كلما اشتهيت الفرح، أمتلئ عن آخري بتفاصيل الذاكرة لأعطي الحياة لما بقي من الأمنيات الهاربة، وأتملص من قلقي، من فوضى العابرين، وسخرية القدر، ومن كل البياض الذي يأتي دفعة واحدة، أترك النور الذي نما بين أناملي ينزلق من يدي، ويتلاشى الأزرق الناصع، ولا أفكر إلا في شيء واحد: كيف أعيد البسمة للشفاه الغاضبة..

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More