عادت ألاعيب القدر، تحملني إلى ذات الشارع، وذات المقهى، في ليلة من ليالي تشرين الباريسية الباردة، أشارك ظله شاي المساء، وجه النادل الذي يعرف طلبه، وصاحب المكان، المقاعد الحمراء التي اعتادت عليه، وربما أرتشف اللحظة من ذات الفنجان، سحابة الدخان التي تغطي الصالة، النرجيلة التي لا أحبها، الشموع الدائبة في صمت، الأضواء الملونة الخافتة..
كل ما هنا يتراقص فرحا، أحمرٌ، بهيجٌ كليلة احتفال، عصي على النسيان كذاكرة لا تموت، وأنا..كسنونوة غائبة مسافرة خارج الزمان، أتطلع إلى عينيه وحركة يديه وشروده وضحكته وضباب دخانه..أتطلع إلى غيابه..أحدق في اللاشيء، في زمن مضى، وآخر سيمضي، وأصنع من أحلامي الخجولة بدايات لا تنتهي، وشيئا من فرحة معتمة في خدر المساء..
ملامح متناقضة تبدو لي، يعذبني تأويلها، تصيبني بحزن إضافي، أستعرض معها سيناريوهات لقاء لن يتم..يالهول الأحلام، حين تفجعنا بواقع مدمر..أيعقل أن تفعل بنا كل هذا ؟!
أتساءل بتغابٍ، وأندس كضبية مكسورة بين أضلعي، لأبعد عني شبهة الفرح، وشبهة الحزن، أو هما في نفس الوقت، وكأنما أتملص من جرائم لم أرتكبها..
كنت معه في حفل راقص، على أنغام كلماتنا وبوح لم تكتب له النجاة من دُوارٍ عشقي رَأَفَتْ به أرواحنا، وقدحي شاي عربي يغازل ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة، لم يتبقى منها سوى الإسم، وزخرفة تزين جدار الصمت ههنا، أتصفحه على عجل، قبل أن تنتهي الأشياء في الضفة الموالية للسراب، وأعيد أحلامي قسرا خطوتين إلى الوراء..
....
جمعت أشلائي بوجل، خرجت من المكان، مهرولة، مبعثرة، أحمل بيدٍ حفنة ذكرى وبالأخرى خيوطا من دخان..
هنا تنتهي الحكاية، كما قال، بخطوتين متوقعتين إلى الوراء، ودمعتين، وأعلن حداد الحب، ليفقد الحرف معناه، تضل الابتسامة طريقها، وتصغر في عيني قيمة الأشياء، تذبل كل صور الجمال، وتتشابه الساعات والأيام..ما الكلِمُ إن لم يسمعه، وما الكتابة إن لم يتدخل فيها ؟..تصبح كل الألحان حزينة، وكل فرح مغتصبا، يصبح السرير فعل هروب، والقلب صفحة كتابة، ويصبح حاضري خاويا إلا من طعم المرارة ووجع كبير، فراغ يهدمني، وهو معمر بداخلي يكبر ويكبر.