سافِرَ الوجه كان يركض، لاهثا، يبحث عن مخبأ..جن الليل، ولازال البحث يضنيه، لم يجد سوى كهوف من الحزن تحتضن عمره الفتي الهارب، وبضع سنانير تؤنس ليله المدلهم..
دوامة لا يسبر غورها غير المتمرس، لكنه وقع فريسة لبطش الشارع، ومحدودية التفكير رغم ذكائه المشهود..
أما كان من الأجدر اللحظة أن يكون بين أترابه، يتفرس في أمل قادم، وحياة تنتظره عريضة بحجم السماء؟..
هاهوذا مستلقٍ على بلاط صلب، يقصم ظهره النحيل، خلفه الأبواب موصدة، يتضور جوعا، ورجال البوليس، تعوي كالذئاب، مزمجرة في وجهه، تذيقه وابل اللكمات في الغدو والرواح..
لم يبلغ الحلم بعد، ولا عقله يستوعب ما يحدث له، انساق وراء ثلة من فتيان الشوارع، ليجد نفسه يركل الفضيلة، ويحتضن ما عداها من خبث ورذيلة، حتى سقط في شراك القدر وهو ينصب له كمينا، في محاولة اعتداء، هاهي ذي ترهن مصيره بين يدي زمرة من رجال الأمن..
انهارت عليه جبال من الأسئلة العاقر، يحاول في وحدته إيجاد أجوبة لها، تشفي حنقه، أو بعضا منه، يجرفه سيل من الدموع، تعتصر قلبه، وصورة عائلته ترتسم أمامه..أبواه الطيبان، لم يقصرا أبدا في حقه، منحاه أكثر مما يستحق، ومنحهما ما لا يستحقان..
قرعٌ متتال على الباب، ظلام دامس، لا يبصر من حوله شيئا، أصابه من الهول ما يعمر دهرا..من الطارق يا ترى؟..وفي أي هزيع من الليل نحن؟..
وبينما تهوي عليه الظنون كحد السيف..بدا له وجه أمه، كذبالة الشمعة توقد غرفة الضيوف التي نام بها على غير عادته..
- هيا انهض يا بني، إنه وقت المدرسة..كفاك خمولا، ستتأخر مرة أخرى...
أمضى يومه مهموما عابسا، تكتم على حلمه، دفنه في غيابة نفسه، أذعره الإنذار القادم من علياء السماء..فقرر أن يتدارك ، قبل أن تعلق قدمه في الوحل..فهو لا يريد أن يبصر وجه ذلك الخناس، في صورة رجل البوليس...