لابأس بنبذة عن معهد العالم العربي قبل أن نشرع في التجوال بين ثناياه، يقع المعهد في الدائرة الخامسة من باريس، جاء منذ خمسة وعشرين عاما ثمرةً للتعاون بين فرنسا و٢٢ دولة عربية وهي: اليمن، المملكة العربية السعودية، البحرين، جزر القمر، جيبوتي، سوريا، الإمارات العربية المتحدة، العراق، الأردن، الكويت، السودان، ليبيا، قطر، موريتانيا، عُمان، فلسطين، المغرب، الصومال، لبنان، مصر، تونس والجزائر .
معهد العالم العربي عبارة عن مؤسسة قائمة على القانون الفرنسي، تم توقيع عقد أساسه عام ١٩٨٠، وفتح أبوابه عام ١٩٨٧، هدفه الرئيسي خلق تواصل فكري بين الشرق والغرب وتطوير معرفة العالم العربي وتعزيز ثقافته وحضارته وتقريبها من الجمهور الفرنسي والأوروبي..
بين ضفاف السين وجامعة جوسيو يقع المعهد، إنه عبارة عن تركيبة استعارت ألقها من التصاميم المعمارية الشرقية والغربية وأضحت جسر وصل بين التقاليد والحداثة، قام بتصميمه مجموعة من المهندسين المعماريين المرموقين أبرزهم "جان نوفيل"، ذاته الذي صمم متحف "كاي برانلي".
في الطابق الأرضي نجد مكتبة المعهد، زوارها كُثر، من خلال عناوينها 20000 المتميزة بتنوع أعمالها، حيث تتعدد المجالات، نجد الأدب والفلسفة والتاريخ والعلوم والفنون والسياحة وكذا معاجم مختلفة لتقريب اللغة العربية من الزوار الغربيين..كما تهدف إلى إرضاء الطلبات المتباينة والمتعددة، وتمكننا من الإبحار في أعماق الثقافة القديمة والمعاصرة.
يقابل المكتبة المقهى الأدبي، ألحانه شرقية، وشايه وحلوياته كذلك، يقدمها مجموعة عاملين لبنانيين بابتسامة عريضة..
تتخلل الطوابق صالات للقراءة، بالغة السكون، روادها منغمسون وسط كتب رصفت بعناية لخدمة الطلبة والزوار والباحثين، كما يقوم المعهد باستضافة كتاب ومثقفين وتنظيم أسابيع ثقافية ومعارض من وقت لآخر تعنى بالشأن العربي في مختلف مجالاته..
هذا ويتيح المعهد إمكانية تنظيم احتفالات ومهرجانات واجتماعات وتظاهرات ، ويقدم خدماته للمؤسسات والشركات والأفراد وذلك بتأجير قاعاته لذات الغرض .
في الوقت الذي يستعد فيه متحف اللوفر لفتح جناح مخصص للفنون والآثار الإسلامية، عادت الحياة للطابق السابع من معهد العالم العربي في ٢٠ من فبراير ٢٠١٢، حيث يوجد متحف المعهد، بعدما استغرق تجديده ثلاث سنوات، فصار بشكله الجديد والمتميز يعطي رؤيا واضحة ومعرفة أفضل عن الحضارة العربية بتنوعها وبمختلف مراحلها بعد أن كان يعنى بالفن الإسلامي فقط، فما تضمنه من قطع أثرية ولوحات ومعروضات جعلته بوابة رئيسية لولوج العالم العربي في بلاد الغرب.
هنا بعض الصور من المتحف التي التقطتْها خلسة كاميرا جوالي، فالتصوير ممنوع كليا بالمتحف.. أعترف أنني كنت مارقة على القانون :)
يشغل فضاء المتحف مساحة ٢٤٠٠ متر موزعة على أربعة طوابق، لكل طابق طابعه الخاص، كما يقوم المتحف بعد تجديده على خمس مواضيع فرعية وهي : "عربيات" و "المقدس وصور الإلهي" و "المدن" و "التعبير عن الجمال" و "زمن العيش".. فنجد ما يقارب ٦٥٠ قطعة فريدة وآثارا نحتية وتصويرية ومخطوطات وتماثيل وآلات موسيقية وملابس وحلي وأدوات منزلية..
توقفت طويلا عند الطابق السادس، شد انتباهي اختلاف الثقافات وتمازج الديانات التوحيدية الثلاث التي نشأت في العالم العربي، فبه تحف أثرية تطلعنا على الإنسان القديم في علاقته بالمقدسات ونسخ من الثوراة والإنجيل والقرآن، إضافة إلى معروضات تمثل المعتقدات الوثنية التي تكونت ذات زمن في المنطقة.
كما يمكننا المتحف من مشاهدة أفلام وثائقية طوال مدة تجولنا تبرز مختلف الجوانب التي عاشها العالم العربي على مدى السنين إضافة إلى تسجيلات صوتية للمعلقات الجاهلية وكذلك الاستمتاع بفضاء الموسيقى حيث الآلات الموسيقية العربية تحييها نغمات شرقية.
التجول في هذا المتحف مريح وجذاب، امتزجت فيه الحداثة وجمالية الديكور والعرض مع رائحة الماضي وتاريخ أسلافنا، يعيدنا إلى ثقافات ما قبل التاريخ حيث المقتنيات والقطع شاهد على حضارة عظيمة تجمع أغلبها بذات المكان، تبعث في نفوسنا نحن أبناء المهجر اعتزازا وفخرا كبيرين..
حز في نفسي، ككل مرة القلة القليلة من أبناء العرب التي تكاد تنعدم مقارنة بأفواج هائلة من الغربيين الذين يهتمون بثقافتنا أكثر من اهتمام أبنائها بها، رغم أن موروثنا يستحق أن نسبر أغواره كي ننصفه أكثر ونقدره أكثر .
الشكر كان موصولا للرعاة المتمثلين في دولة الكويت والمملكة العربية السعودية ومؤسسة جان لوك لا غاردير الفرنسية، الذين تحملوا تكاليف عملية التحديث والتي بلغت خمسة ملايين يورو لإعطائه صبغته الحالية..
إلى الطابق التاسع والأخير، حيث مطعم زرياب المختص في المطبخ اللبناني الأصيل، أجواء حميمية وغذاء بنكهة عربية..
هنا تنتهي الجولة على سطح المعهد، رؤيا بانورامية في ظهيرة مشمسة تلقي بالبصر على أطراف السين وكاتدرائية نوتردام وبرج إيفل..
تمنيت لو أطلق صرخة من هناك وأحمل الريح رسالة للشباب العربي المهاجر، للفرنسيين ذوي الأصول العربية، للمثقفين، للطلبة، بأن يأتوا فرادى وجماعات لإحياء الموروث العربي المهمش، ويساهموا في رسم صورة حضارية للأمة العربية والإسلامية بدل الوجوه الشقراء التي أرتطم بها كل مرة في ممرات المعهد ..