كَمٌّ هائل من المرارة والفجيعة تسكنانني، وأنا أتطلع كل صباح وكل مساء إلى نشرات الأخبار العربية، وثلة من الجرائد لا تحمل بين طياتها غير المواجع.
حسمت أمري مرات عدة للإقلاع عن هذه العادة التي ولدت ببيتي مع ولادة الثورات العربية، وقررت مرارا أن أقاطع التلفزيون أو أضرب عنه، وأعود إلى طبيعتي، كتب محفزة، روايات عظيمة، وكفى، أي لا إدمان على الشاشة.
حتى أن بوادر اكتئاب فجائي تلوح فوق سمائي، حينما نقضي سهرتنا أنا وصديقتي لطيفة في استعراض معضلاتنا العربية، وفحولتها المعطوبة.
لخيبتي، ما ألبث أعود إلى الجهاز، أتلصص عن بعد على أقدار الآلاف وهم يروون عطش الثرى صبحا وعشية، وأتحسس حربا، مخافة أن تقع على غفلة مني.
كم شعبا يجب أن يباد وتسيل دماؤه غزيرة تعبر القنوات وتملؤ الصفحات بالقهر الفاتك، قبل أن يراوده ذبيب الديمقراطية المطعونة التي تفنى روحه ممنيا نفسه الوصول إليها.
ما أثقلها من هموم، تنخر الجسد وتسممه، وكأننا بحاجة لمن يجهز علينا حد الوجع، يكفي وجع الأمة ومهالك العروبة التي لا تنتهي..
أيعقل أن يفعل بنا حكامنا كل هذا؟..أتساءل بغباء.. وكيف لا وهم الذين لا يرضون إلا بالنسب الحاسمة، لا يصلون سدة الحكم بأقل من ٩٩،٩٩٪، وهي نفس النسبة التي يحتاجونها قبل المغادرة لإبادة الشعب عن بكرة أبيه.
من يوضح لي ما يحدث، إعاقة فكرية تضرب عقلي، وأنا أحاول جاهدة التمييز بين الظالم والمظلوم، الحقيقة والباطل، بين الصدق والبهتان..
وجدت جوابا بسيطا لتساؤلاتي في جملة قرأتها لأنس زاهد ( في كل الدنيا يلقون بالقتلة في السجون. عندنا فقط يمكن للقاتل أن يقضي بقية مدة عقوبته تحت قمّة البرلمان. إنه إنجاز تعجز عنه الديمقراطية البريطانية نفسها).
وهاهم هناك (الحكام) يبثون المقابلة، ثم يرعون المباريات الدموية بين أجهزتهم الفاسدة وجسد الشعب الأعزل، ساديون يتلذذون بامتصاص الدماء دون أدنى رحمة..وكأننا أمام مشهد من فيلم دراكولا.
اعتقدوا لأعوام طوال، أننا نعالهم التي يمشون بها فوق جثتنا الحية منها والميتة، وما أن ظهرت بوادر الثورة، شنوا علينا حروبهم الضارية وأبانوا عن أنيابهم المفترسة، خشية إبعادهم عن مجلسهم الوثير.
يال هذا الزمن القبيح المفجع، الذي لم أجد له وصفا أفضل مما قاله صلاح عبد الصبور ( هذا زمن الحق الضائع، لا يعرف فيه مقتول من قتله، ومتى قتله، ورؤوس الناس على جثث الحيوانات، ورؤوس الحيوانات على جثث الناس، فتحسس رأسك).
أنبكي أوطاننا أم تَبكينا، تعدى الوجع الجرعة المسموح بها، وتهاوت علينا الضربات من القريب قبل العدو، قتل من قتل، وسجن من سجن، واختفى آخرون..ولازلنا نحلم بلحظة تاريخية حاسمة تغير مجرى حياتنا رغم ترسانتنا العربية الوضيعة المخجلة..
قد تتساءلون لما كل هذا التشاؤم، وقد كان حريا بي أن أنادي بالأمل كما تعودنا أن نفعل، أو تصابون بانهيار عصبي كما وصفته صديقتي بعد انتهائها من الاطلاع على ما يعتصرني، لكني لم أجد مهربا من كل هذا الألم، ونحن على أعتاب الحرية نناديها بسخاء، لتخلصنا من بين أنياب جلادينا، لا نملك سوى اللحظة لا سواها، ننتظر سقوط الطاغية عن عرشه المزعوم، لنفرح فرحة الصحابة بسقوط هبل، ونتلذذ بفجيعة قريش لفقدانه، دون أن ندفع باهظا ثمن سقوطه..نترقب بحذر..جلادا جديدا..أو فجرا جديدا..